التَّصَوُّفُ .. الفَصْلُ الأخِيرُ فِي التَّجْرِبَةِ الروحِيَّةِ
يرى أقطابنا من أهل التصوف في الإسلام أن حق الانشغال هو أن تنشغل بالله ذكرا وعبادة وطاعة ، ويرون أن تمام الانشغال بالله مستقره ومستودعه الاستئناس والأنس واستدامة الطمأنينة ، وهذا المقام يتحقق لذوي الوصل إذا ما استهدفوا قلوبهم بقطع العلائق والشواغل التي طالما أفسدت القلب بمثالب الحقد والغل والحسد وغمط الناس وازدياد العجب بالنفس التي تحض الإنسان على الاستغراق التام في الشهوات كالطعام والنكاح وحب المال ، أو تلك النفس المستغرقة في الغيبة والنميمة والفجور في الخصومة . وإذا انشغلت بالله وحده لا شريك له كان الإقبال الإلهي عليك بدوام الذكر وراحة الطاعات ، ونعيم العبادات وملازمة القرآن بغير انقطاع متصلا بلذة التلاوة وبصيرة التدبر .
مَلامِحُ سَلامَةِ القَلْبِ :
وحينما تجاهد نفسك بقطع الشواغل والعلائق عنها تكون أيها العبد الراغب في الوصل والمحبة قد قطعت نصف الطريق ، وبقي النصف الآخر متعلقا بالقلب الذي ينبغي أن يكون أكثر صفاء ونقاء ، وهذا الصفاء تمام معنى السلامة التي جاء ذكرها في كتاب محكم أمين ، يقول رب العزة والجبروت ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) ( سورة الشعراء ـ آية 89 ) ، قال سعيد بن المسيب : " القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض " ، يقول الله تعالى ( في قلوبهم مرض ) ( سورة البقرة آية 10 ) ، و قال ابن عثمان النيسابوري في تفسيره للقلب السليم : " هو القلب الخالي من البدعة المطمئن على السنة " ، فالله لا يقبل إلا قلبا سلم من الكفر والشرك أولا ، ثم قلبا جاء بعيدا عن شره الدنيا حتى يكون هذا القلب على استعداد مطلق ليقين الإيمان وتلقي أسرار الحكمة .
أما ابن عاشور في تفسيره للقرآن الكريم فيشير إلى القلب السليم بأنه الموصوف بقوة السلامة ، والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية ، أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي . وضدُّه المريض مرضاً مجازياً ، والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة الظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربّهم .
أما الإمام السعدي فيرى أن المقصود بالقلب السليم الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله وهواه تابعا لما جاء عن الله.
وسلامة القلب أي صحته من الرذائل التي بالضرورة قد توقع بالمرء في شرك أكبر كان أم أصغر كالرياء والنفاق والموالاة ، والسلامة للقلب تعني أيضا فراغه من كثرة الكلام في غير ذكر الله ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسولنا وحبيبنا وسيدنا المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكره الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " (رواه الترمذي ) .
ولاشك أن هناك قلوبا كثيرة أوصدت أبوابها عن الحق وأصبحت بمنأى عن الاستقامة والهدى ، ولكن من رحمة الله بعباده المؤمنين المسلمين أن جعلهم على حالة وصال دائمة بالتقوى والهداية ، ففي حديث البخاري عن ابن عباس قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط أي نفر قليلون ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد لم يصدقه بشر ، إذ رفع لي سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ! ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد عظيم لعلهم قوم عيسى ، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك " ( مسند الإمام أحمد ) .
والتصوف الإسلامي يقدم منهاجا رائعا لسلامة القلب في سياج رصين من القرآن الكريم والسنة والنبوية العاطرة ، سلامة تصل العبد بربه وتجعل غاية العارف وجود معروفه كما سئل أبو يزيد البسطامي عن درجة العارف ، فقال : " ليس هناكدرجة ، بل أعلى فائدة العارف وجود معروفه " وسئل بماذا يستعان على العبادة ؟ فقال : " بالله ، إن كنت تعرفه " ويقول عن العارف " من عرف الله فإنه يزهد في كل شئ يشغله عنه " .
وإبراهيم بن أدهم صاحب الشخصية الأشهر في تاريخ التصوف وفقا لقصة توبته ذائعة الصيت والذي تركزت أقواله وآراؤه في الزهد حول مراقبة النفس وترك الدنيا والحزن على ما فاته من الطاعات يشير إلى أن العبد إذا جاد بنفسه لله ، أورث قلبه الهدى والتقى ، وأعطيَ السكينة والوقار ، والعلم الراجح والعقل الكامل . وإذا أردت أيها العبد الطائع إلى ربك أن تكون ذا قلب سليم فالتواضع توجيه أول لعظمة الله ، وهي صفة كما يقول ذو النون المصري تذوب وتصفو ، ومن نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه ؛ لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته .
فَضْلُ التَّوَاضُعِ :
وصاحب الخلق القرآني نبينا الأشرف ( صلى الله عليه وسلم ) يقول كثيرا في هديه النبوي عن فضل التواضع وذم الكبر والغرور الذي هو بوابة للتهلكة ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بَطَر الحق وغَمْط الناس " .(رواه الإمام أحمد ) . عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال : " يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صُوَر الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى " بولس " تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال". ( سنن الترمذي ) .
وعن ركب المصري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " طوبى لمن تواضع في غير منقصة [ أي: معصية ]، وذل عن نفسه من غير مسألة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة. وطوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، وطوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله" . (رواه الطبراني والمنذري ).
والتواضع هو عدم التعالي والتكبر كما تشير موسوعة الأخلاق الإسلامية (2012 ) ، ولقد امرنا الله تبارك وتعالى بالتواضع ، يقول تعالى : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) ( سورة الشعراء ، آية 215) ، ويقول عز وجل في موضع آخر من الذكر الحكيم : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) ( سورة القصص ، آية 83 ) .
والفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر الذي كان في بداية أمره قاطع طريق بين أبيورد وسرخس بالقرب من سمرقند بخراسان وكان في عشق جارية كان في طريقه إليها فسمع تاليا يتلو ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) ( سورة الحديد ، آية 16 ) ، فقال : يا رب ، قد آن ، فرجع . فسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال : أن تخضع للحق وتنقاد إليه ، ولو سمعته من صبي قبلته ، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته " .
بَيْنَ التَّوَاضُعِ والرِّضَا :
إذا كانت لفظة التواضع مشتقة من الضعة ، فالأخيرة هي رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقه فضله ومنزلته ، وفضيلته لا تكاد تظهر في الناس (موسوعة الآخلاق الإسلامية ، 2012 ، صفحة 207 ) . والرضا ضد السخط ، وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (سورة المائدة ، آية 119) ، وبحق أهل الرضا أحوالا ومقامات يرضى الله عنهم ، وأهل الرضا لهم جزاء معروف ، يقول تبارك وتعالى : ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) ( سورة ق ، آية 35 ) .
وها هو أبو نصر السراج الطوسي الملقب بطاووس الفقراء وأحد أئمة التصوف الإسلامي الذي يوصف دوما بأن كتابه " كتاب اللمع " أول مرجع في التصوف الإسلامي يعرض بشكل متكامل الطريق الصوفي مع ذكر مصادر عديدة له ، يقول عن الرضا هو مقام شريف ، وهو باب الله الأعظم وجنة الدنيا وهو سكون القلب تحت حكم الله عز وجل . والطوسي نراه في كتابه يعقد الصلة دوما بين حال الرضا ومقام الوجد حيث يقول : " الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب ، لأن النفس محجوبة بأسبابها ، فإذا انقطعت الأسباب ، وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا ، ونجعت فيه الموعظة والذكر وحل من المناجاة في حل غريب ، وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر طاهر ، فشاهد ما كان منه خاليا ، فذلك هو الوجد " .
الرِّضَا ثَمَرَةُ المَحَبَّةِ :
ومرجع ذلك كله أن الرضا ثمرة المحبة ، وهو من أعلى مقامات المقربين والواصلين ، ذلك أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ، وفيما يروى عن أبي طالب المكي الواعظ صاحب كتاب " قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد " ، من أن الله تبارك وتعالى يتجلى لعباده المؤمنين فيقول : " سلوني " ، فيقولون : رضاك " . وختاما نورد حديث الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرضا إذ يقول : " إذا أحب الله تعالى عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه " .
التصوف .. من المكابدات إلى اليقين:
المستقرئ بعمق ودراية لتاريخ حركة التصوف الإسلامي مذ أن بدأت إرهاصاتها بزهد صحابة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه رضوان الله عليهم ، يدرك على حد اليقين بأن الحسين بن منصور الحلاج أحد أبرز الوجوه الصوفية في الإسلام قد قدم خدمة عظيمة بقتله للتصوف على مر الأزمنة التي تلت مقتله بصورة أجبرت كتاب التاريخ ومن بعدهم الشعراء والمسرحيين وأخيرًا كتاب الرواية أن يستلهموا مسيرة أحداثه وسيرة نهاياته في أعمالهم الإبداعية.
لأن بموت الحلاج دخل التصوف في أزمة أولاً ثم سرعان ما تحولت تلك الأزمة إلى مرحلة ازدهار رائقة في حياة التاريخ الصوفي سواء من حيث الأقطاب أو من خلال المنتوج الصوفي الغزير ، فحينما قتل الحلاج عقب التصريح بغير تلميح عن إشراقاته ومقاماته وأحواله التي ملأت الأرض ضجيجا وصخبا على مستويي القول والتلقي ، أجبر التصوف الإسلامي على الدخول في حرب شرسة بغير هوادة أو رحمة مع أهل السنة والجماعة ؛ أولئك الذين ارتابوا إلى حقيقة التصوف ، وهل هو الذي يتفوه به الحلاج أم أن له أبعاداً وملامح أخرى ؟ .
التَّصَوُّفُ والخِلافةُ .. عِلاقاتٌ مُضْطَرِبَةٌ:
ومرحلة الشك في التصوف والتربص به وبرجاله الأقطاب صارت الملمح الأبرز لفترة تاريخية لا يمكن عزلها عن حركة التصوف الإسلامي لاسيما وأن التصوف باعتباره عبر امتداده بمنأى عن الخلافة ونوازع السلطة إلا أن هذا الجنوح بعيدا عن القصر والأمر والنهي كان يمثل قلقا كبيرا لدى الخلفاء بدء من معز الدولة انتهاء بالدولة السلجوقية مع دخول طغرل بك السلجوقي بغداد ولربما يمكن على استحياء تجاوز حالة القلق التي مثلها التصوف والصوفية لدى الخلفاء والسلاطين إلى بداية عهد حكم العثمانيين التي ستدوم.
وهكذا تبدو الخلافة دوما ملكا عضوضا لا يشاكل أو يماثل حكم الراشدين أبي بكر والفاروق وعثمان وباب مدينة العلم والمعرفة الإمام علي رضي الله عنهم أجمعين ، وسرعان ما يخبرنا كتاب التاريخ الإسلامي عن إحداثيات الدول الإسلامية التي تعاقبت منذ تنازل الإمام الحسن رضي الله عنه وعن أبيه والصلاة والسلام على جده المصطفى محمد ، والعامل الرئيس الذي أفدى بسقوط كافة الخلافات الإسلامية منذ اعتلاء واغتصاب معاوية بن أبي سفيان الخلافة وتحويلها إلى ملك عضوض هو امتلاك السلطتين الزمنية والدينية ، بل إن اقتناص خلفاء بني أمية ومن خلفهم خلفاء الدولة العباسية واستلابهم للهيئة الدينية الرسمية في تلك العصور هو مفاد السقوط النهائي لهم . وهذا يفسر دوافع قلق رجال السلطة الدينية بتلك الخلافات المتعاقبة من رجالات التصوف بحكم كونهم يمتلكون بغير مطامح دنيوية السلطتين الزمنية على امتدادها والدينية لكن من غير سعي لتقرب صوب حاكم أو خليفة ، أو اعتلاء تجاه منصب أو زعامة.
علاوة على أن إبطال عمل العقل والتفكير في تلك الفترات التاريخية بوصف الأخير فريضة إسلامية ضرورية ولازمة وفقا لإشارة الأستاذ عباس محمود العقاد ، كان سببا قويا في توطين ثقافة النقل الحرفي وفقر الاجتهاد اللهم سوى الأئمة الأربعة الأماجد أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، ولاشك أن الاجتهاد الفقهي والفكري الذي اشتعل على فترات متفاوتة من حكم الخلافتين الأموية والعباسية مثَّلَ رصاصة الرحمة التي أودت بحياة الخلافتين تماما. بخلاف أهل التصوف الذين أصروا على التدبر والتفكر وإعمال العقل مع الاهتمام بالنقل الدقيق مع أهل الثقة والدراية ، وتلك العوامل والصفات التي توافرت لأولئك الصوفيين مهدت لهم قدرا كبيرا من الزعامة الحقيقية بقلوب وعقول مريديهم.
والمثير في صحائف القهر في تاريخ التصوف الإسلامي أن كل خلافة زعمت أنها تمثل الإسلام بشريعته السمحة وفضائله ومناقبه استطاعت أن تستغل الدين لاسيما الترويج للفكر الديني الذي بدا متطرفا في تلك الفترات ولجأ خلفاء بني أمية وبني العباس تحديدا إلى استغلال الدين لتحقيق مآرب شخصية وطموحات عائلية بل ومطامح قبلية خاصة لذا لم يستطيعوا أن يمثلوا الإسلام ولا المسلمين على امتداد حكمهم. وتبدو ممارساتهم السياسية والاجتماعية والدينية أيضا كفيلة بالحكم على فساد عصورهم باستثناء القليل من خلفائهم ، على سبيل التحديد عمر بن عبد العزيز الذي حفر اسمه بالذهب في كتاب التاريخ وأضاء باسمه صفحات طويلة وعريضة رغم قصر فترة حكمه .
ولست بزاعم إن قلت بأن الحياة السياسية منذ دخول الأمير معز الدولة بغداد وحتى بداية الفتح العثماني للبلدان الإسلامية قد شهدت أحداثا زادت المجتمعات العربية توترا وقلقا واضطرابا انعكس على مناحٍ ومجالات مختلفة منها الفقه الديني الذي بدا بعضه مرتبطا بالخليفة ومزاجه ومطامحه السياسية ورغبته في سعة السلطة والنفوذ ، والأدب الذي ترنح بين الإجادة والخفوت والانحلال في اللفظ و أحيانا المعنى والأغراض الأدبية ، لكن التصوف وحده امتاز بأن نصوصه ظلت بغير ترنح أو عزوف مطلق صوب القمة .
وتلك السلطات التي بدأت بملك بني أمية انتهاء بالدولة العثمانية استقرت على فكرة واحدة مفادها أن حركة التصوف الإسلامي ما هي إلا سلاح نافذ وناجز باستطاعته تقويض أقوى سلطة زمنية ومن ثم كانت حادثة مقتل الحلاج المدخل الرئيس والفرصة السانحة لبعض الخلفاء والسلاطين لمحاربة التصوف ورجاله بعد ذلك . لكن الجدير بالذكر أن الأقطاب الأوائل للتصوف الإسلامي استطاعوا بخبرة وحكمة وتجربة استثنائية أتيحت لهم بفضل الطاعات والعبادات أن ينتهزوا فرصة هذا الهجوم المستدام وتحويله إلى بوابة سحرية لاستقطاب الكثير من أصحاب الهجوم أنفسهم .
وظل هاجس القلق المرضي من قِبل السلاطين تجاه أقطاب الصوفية قائما حتى عصر قنصوة الغوري حاكم مصر الفاطمي قبيل سقوط الخلافة هناك واغتصابها من جديد على أيدي العثمانيين ، وإمامنا الدكتور عبد الحليم محمود ( رحمه الله ) يورد لنا قصة في كتابه الماتع " قضية التصوف المنقذ من الضلال " عن شكل العلاقة المثيرة بين ممكن عزفوا عن الدنيا بمفاتنها وزخارفها الفانية وبين طمع وجشع السلاطين الذين جعلوا جل همهم السلطة وجمع المال .فيقص علينا إمامنا حديثا دار بين الإمام الصالح الورع الزاهد شمس الدين الديروطي وقنصوة الغوري حينما حط الأول على السلطان في ترك الجهاد ، وكان للشيخ شمس الدين مجلس للوعظ في الجامع الأزهر وهو مجلس مهيب يحضره الملوك والأمراء وتفيض فيه العيون والمآقي .
وخلاصة القصة التي يسردها كاملة إمامنا الدكتور عبد الحليم محمود أن السلطان قنصوة الغوري سأل القطب الصوفي الشيخ شمس الدين الديروطي عن سبب إثارته للرعية في ترك الجهاد الذي أمر به السلطان ، متحججا بأنه ليس له مراكب يجاهد فيها ، فقال له الشيخ شمس الدين : عندك المال الذي تعمر به ، وحينما طال الكلام بينهما قال له الشيخ شمس الدين : " قد نسيت نعم الله عليك ، وقابلتها بالعصيان أما تذكر حين كنت نصرانيا ثم أسروك ، وباعوك من يد إلى يد ثم من الله عليك بالحرية ، والإسلام ، ورقاك إلى أن صرت سلطانا على الخلق ، وعن قريب يأتيك المرض الذي لا ينجع فيه طب ثم تموت ، وتكفن ويحفرون لك قبرا مظلما ثم يدس أنفك هذا في التراب ثم تبعث عريانا عطشانا جيعان ثم توقف بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة ثم ينادي المنادي من كان له حق أو مظلمة على الغوري فليحضر فيحضر خلائق لا يعلم عدتها إلا الله تعالى فتغير وجه السلطان من كلامه فقال كاتب السر وجماعة السلطان الفاتحة يا سيدي الشيخ خوفا على السلطان أن يختل عقله فلما ولي الشيخ ، وأفاق السلطان قال ائتوني بالشيخ فعرض عليه عشرة آلاف دينار يستعين بها على بناء البرج الذي في دمياط فردها عليه ، وقال أنا رجل ذو مال لا أحتاج إلى مساعدة أحد ، ولكن إن كنت أنت محتاجا أقرضتك ، وصبرت عليك فما رؤى أعز من الشيخ في ذلك المجلس ، ولا أذل من السلطان في هكذا كان العلماء العاملون ، وقد صرف على عمارة البرج بدمياط نحو أربعين ألف دينار ، ولم يساعده فيها أحد .
التَّصَوُّفُ والشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ :
كيف حدث ذلك إذن ؟ وجد التصوف نفسه في موقف المبرر والمدافع عن التهم التي وجهت للحسين بن منصور الحلاج واتهامه بالفسق ثم بالخروج على التقاليد والأعراف الدينية وأخيرا بالكفر ، فكانت ثمة ضرورة في توضيح موقف التصوف الذي لجأ إلى الاستناد على مصدري الشريعة القرآن والسنة الشريفة ، فكانت كل النصوص والطروحات الصوفية لا تخرج عن المصدرين ورد كل فكرة وحال ومقام إليهما وهذا دفع الكثيرون إلى الاعتراف بأن التصوف لا يخرج عن الدين ولا عن القيم والأخلاق الإسلامية الرشيدة . وسرعان ما تحول المهاجمون إلى منسجمين مع الطرح الصوفي انسجاما تاما ، وتستحضر تلك السطور ما قاله الإمام أبو الحسن الشاذلي : " من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو بدعي " ، وقوله : " إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في جماعة فلا تعبأ به " .والإمام الجنيد يؤكد دوما على الصلة الوثيقة والعلاقة المتينة بين التصوف والشريعة فقال : " الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر السول صلى الله عليه وسلم ، واتبع سنته ، ولزم طريقه "
أما البوابة السحرية التي عبر الصوفيون منها وأجادوا وأبدعوا من خلالها فهي الأدب الصوفي إن صلحت التسمية وجازت ، والأدب الصوفي لم يقتصر بالطبع على النص النثري ، بل تعدى ليشمل الشعر أيضاً ، والأبرز في هذا الإنتاج الاستثنائي أنه حمل أغراضا تعليمية تربوية تأكيدا على الدور التنموي والتربوي للتصوف ، وفي هذا يؤكد أكبر مستشرقي التصوف الإسلامي جوزيبي سكاتولين على أن هذه الحقبة التاريخية التي دافع فيها التصوف عن وجوده وتبريره لكنهه مثلت انتقالا مهما وخطيرا من مرحلة الإبداع المحض في الخبرة والتجربة الصوفية ، وانتقل التصوف من مرحلة التجميع للأقوال والحكم وتنظيمها وتدوينها إلى مرحلة إبداع خاص.
الرَّسَائِلُ الصُّوفِيَّةُ :
كما أن هذه الفترة التاريخية اشتهرت بظهور ما يعرف بالرسائل الصوفية وهي تصنيفات فريدة من نوعها تلخص التصوف وتوضح حقيقته فهي قطع من الحكمة وخلاصة التجربة الروحية والتجارة المربحة مع الله عن طريق العبادة الخالصة وإلزام النفس بأوامر الله ونواهيه والحرص الشديد على الطاعات وتأديتها ، ويمكن توجيه الضوء وتسليطه على شخصيتين صوفيتين كبيرتي المقام والمكانة هما الحكيم الترمذي الذي سنفرد السطور القادمة للحديث عنه وعن مصنفاته الرائدة ، والشخصية الثانية هو عبد الجبار النفري صاحب المخاطبات والمواقف الذي حير بتصنيفه أولي الأباب والعقول المستنيرة وهو ما يحتاج منا إلى وقت كافٍ ومساحات عريضة لتناول تلك المواقف .
ظَاهِرَةُ الحَكِيْمِ التِّرْمِذِي :
تخبرنا كتب التراجم الذاتية أن الحكيم الترمذي هو أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن من ترمذ بمدينة خراسان عاش بها وفيها توفي ، ولاشك أن دراسته للحديث والفقه لاسيما الفقه الحنفي قد مكنته من التحدث في أمور العقيدة ، ورغم هذا نال ما ناله سابقوه من اتهام بخروج عن الدين ولصقت به البدعة في الكلام لكنه برئ من كل هذا تماما ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : أخرجوا الحكيم من ترمذ ، وشهدوا عليه بالكفر ، وذلك بسبب تصنيفه كتاب : " ختم الولاية " وكتاب " علل الشريعة " ، وقالوا : إنه يقول : إن للأولياء خاتما كالأنبياء لهم خاتم . وإنه يفضل الولاية على النبوة ، واحتج بحديث : يغبطهم النبيون والشهداء فقدمبلخ ، فقبلوه لموافقته لهم في المذهب . والحكيم الترمذي تجده أكثر اختلافا عن سابقيه أيضا ، في أنه رفض إدخال العقل في أمور الدين بل وقام التيارات الفلسفية مقاومة شرسة ، ورغم ذلك اتسم بتوجه أساسي ميز مذهبه في التصوف وهو إدراك الحقائق الدينية عن طريق الذوق والمعرفة العرفانية الحدسية المختبئة وراء النصوص ، والحكيم الترمذي هو أول من تكلم عن الولاية والأولياء وله في ذلك كتاب عنوانه " ختم الأولياء " .
عِلْمُ الأوْلِيَاءِ وعِلْمُ الأنْبِيَاءِ :
يبدو أن الحكيم الترمذي وعبد الجبار النفري قد اتفقا في طريقة عرض رسائلهما الصوفية حيث اعتمدا على الموقف وطرح السؤال الذي بالضرورة يثير الدهشة ومن ثم اقتناص الوعي والانتباه والإدراك لدى المتلقي المريد ، وهذا ما فعله النفري في المواقف ، وما اعتمده الحكيم الترمذي في ختم الأولياء من إثارة الأسئلة من مثل قوله : قال له قائل : صف لنا شأن الذين وصلوا ، فوقفوا في مراتبهم على شريطة لزوم حفظ المرتبة ؛ وما سبب اللزوم ؟ وصف لنا شأن الذين وصلوا فرفعت عنهم الشريطة ، وفوضت إليهم الأمور . ومن ولَّى حق الله ؟ ومن ولي الله؟. قال: إن الواصل إلى مكان القربة، رتب له محل، فحل بقلبه هناك، مع نفس فيها تلك الهنات باقية، فإنه إنما ألزم المرتبة، لأنه إذا توجه إلى عمل من أعمال البر، ينال في موضع القربة، ليعتق من رق النفس ، مازجه الهوى ومحبة محمدة الناس، وخوف سقوط المنزلة. فعمله لا يخلو من التزين والرياء، وإن دق . أفيطمع أن يترك قلبه مع دنس الرياء والتزين فيحل محل القربة؟
بل يقال له : يشترط عليك، مع العتق من رق النفس، الثبات ههنا، فلا تصدر إلى عمل بدون إذن. فإن أذنا لك، أصدرناك مع الحراس، ووكلنا الحق شاهدا عليك ومؤيدا لك؛ والحرس يذبون عنك. قال له قائل: وما تلك الحرس؟ . قال: أنوار العصمة موكلة به؛ تحرق هنات النفس ونواجم ما انكمن منها. وكل ما ينجم من مكامن النفس، من تلك الهنات أحرقته تلك الأنوار حتى يرجع إلى مرتبته ولم تجد النفس سبيلا إلى أن تأخذ بحظها من ذلك العمل. فيرجع إلى مرتبه طاهرا كما صدر؛ لم يتدنس بأدناس النفس: من التزين والتصنع، والركون إلى موقع الأمور عند الخلق.
فهذا المغرور، لما وجد قوة المحل، ونور القربة، وطهارته، ظن أنه استولى، ونظر إلى نفسه فلم يجد فيها شيئا في الظاهر يتحرك. ولا يعلم أن المكامن مشحونة بالعجائب " .
خِصَالُ الولايَةِ العَشْر :
وتنبغي الإشارة إلى ما ذكره الحكيم الترمذي من خصال عشر تتحقق بها الولاية وهو الحديث الذي ألحقه بكلام عن ولي الله الذي وصفه برجل ثبت في مرتبته وافيا بالشروط كما وفي بالصدق في سيره ، وبالصبر في عمل الطاعة ، واضطراره ، فأدى الفرائض وحفظ الحدود ولزم المرتبة ، حتى قوّم وهذب ونقّي وأدب وطهر وطيب ووسع وزكى وشجع وعوذ .
ورسالة خصال الولاية العشر تستحق النشر بأكملها لأن بها من الطاعات والآداب ما يؤثر النفس ويطهرها ، يقول الحكيم الترمذي : اعلم أن الله ـ سبحانه ـ عرَّف العباد أسماءه ، ولكل اسم ملك ، ولكل ملك سلطان وفي كل ملك مجلس ونجوى وهدايا لأهلها.
وجعل الله لقلوب خاصته، من الأولياء، هناك مقامات، " يعني " أولئك الأولياء الذين تخطوا من المكان إلى الملك. فرب ولي مقامه في أول ملك، وله من أسمائه ذلك الاسم. ورب ولي مقامه التخطي إلى ملك ثان وثالث ورابع. فكلما تخطى إلى ملك أعطى ذلك الاسم؛ حتى يكون الذي يتخطى جميع ذلك إلى ملك الوحدانية الفردانية هو الذي يأخذ بجميع حظوظه من الأسماء. وهو محظوظ من ربه، وهو سيد الأولياء؛ وله ختم الولاية من ربه . فإذا بلغ المنتهى من أسمائه؛ فإلى أين يذهب؟ وقد صار إلى الباطن الذي انقطعت عنه الصفات.
اِنْتِهَاءٌ :
رحم الله إمامنا حجة الإسلام أبا حامد الغزالي القائل في كتابه " إحياء علوم الدين " : الطريق تقديم المجاهدة ، ومحو الصفات المذمومة ، وقطع العلائق كلها ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ، ومهما حصل ذلك كان الله المتولي لقلب عبده ، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم " ، ويضيف حجة الإسلام الغزالي في كتابه الذي أمتع الملايين من مريديه والباحثين عن سبل وطرائق الوصل " وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة ، وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر ، وانكشف له سر الملكوت ، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة ".
*أُسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيْسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ - كلية التربية ـ جامعة المنيا